لن أسكت بعد اليوم
بقلم: محمد شحات عبد الغني
شدتني
إليها نظرة التحدي التي حملتها عيناها أمام كل المحيطين بها عندما واجهت جليسها
منتفضة ومندفعة إلى لملمة متعلقاتها، وأمرت صغيرها بسرعة إنهاء وحبته التي يحبها
حتى تستعد للرحيل وتذهب به، بل ووجهت سهام نظراتها إلى جليسها الذي يبدو أنه على
قرابة وثيقة منها وخَاطبتْه بصوت التقطه المحيطون بوضوح منذرة إياه بألا يكرر ما
قاله ثانية...
فوجئ
الحاضرون بالموقف لأنه يخرق جملة التقاليد والأعراف التي تأبى على المرأة سوى
التحرك ضمن إسارها، وقد ساد لدى هؤلاء انطباع بأن تغيرا في المفاهيم يضرب بقوة بعض
القيم المعمول بها في مثل هذه المجتمعات الصغيرة، التي تعتبر المرأة مجرد كم مهمل،
وأنه يمكن اقتيادها هنا أو هناك دون مشاركة منها أو رأي، وأنه لا يحق لها، أو لا
تملك القدرة أصلا على الأخذ والرد والمشاركة في قرار يخصها وحدها أو يخص أسرتها
الصغيرة.
إثارة
الموقف للحضور دفعهم لطرح تساؤلات، ليس فقط لأنه يصدر عن امرأة اعتاد الناس على
رضوخها، وربما انسياقها للرجل الذي برفقتها، ولا بسبب الخروج الذي قامت به واُعتبر"فظا"
بدعوى أنه يتجاوز القيم التي تمنعها من التطاول على "ولي أمرها"، وإنما
لأن هذا الأخير الذي دفعها للاستشاطة غضبا، والتلفظ ببعض الكلمات غير المفهومة، لم
يتحرك قيد أنمله من مقعده، ولم يسع للتراجع عما قاله لها، أو حتى استرضائها ولو
بكلمة تنقذه من هذا الحرج الذي وُوجه به في محفل يضم مواطنين ووافدين من ذوي المناصب
الكبرى!
لم
يتغير وجه الزوج بالمرة ـ هكذا أدركنا العلاقة بحكم الصغير الذي كان ينظر إلى
المتجادلين بعين من اللهفة والترقب ـ لم يتغير وجهه مطلقا أمام موقف قلما يحدث
داخل مجتمعات ذات طبيعة خاصة تخفي النساء عن الأعين لأسباب غير مبررة، وربما لا
سند لها من دين، وكأن الرجل يؤكد الانطباع الذي ساد ولا زال بشأن طبيعة مجتمعات حيث
القيم شديدة "المحافظة" ناحية المرأة وحقوقها تسيطر وتتحكم في كل شيء، وقد
ترددت همهمات في جنبات المكان حول ما الذي دفع المرأة لاتخاذ هذا الموقف وتبنيه، ولماذا
تصدت لزوجها بهذه الطريقة غير اللائقة، مثلما
وصفها البعض، ولماذا لم يقدرها التقدير الكافي ويعطيها الحق في مناقشته بدلا من
الاعتراض عليه بهذا الأسلوب، أم أنه لا يصح منها ولا ينبغي عليها أن تراجعه فيما
يقول بدعوى أن ما يراه أو يفصح عنه هو أمر "منزل" يسري عليها دون نقاش
أو مراجعة!
التفتَ
إلي محدثي المتخصص بقضايا المرأة، محاولا أن يستوعب ما جرى، مستفسرا مني عما غمض واستصعب
عليه فهمه، ورغم أن الكثيرين لم يعبأوا كثيرا بمحاولة سبر أغوار ما حدث باعتباره
شأنا خاصا بزوجين، كما أننا لم نَحُطْ بأبعاد الحوار الذي دار بينهما كاملا
وخلفياته، ودفع إلى هذه المواجهة، لكن محدثي القادم من بيئة ثقافية مختلفة أصر على
فهم أبعاد الموقف، معتبرا إياه دليلا على نزوع المرأة في الخليج على أن تخلع عنها
ربقة الخانع الذليل الذي تتوقف حياته وتنبني على ما يحدده لها الآخرون حتى لو كان
هؤلاء من أقرب الناس لها بداية من والدها وانتهاء بولدها ومرورا بالطبع بزوجها.
أفاض الضيف
في الحديث: ألا تمثل صورة الموقف ذاك شكلا من أشكال العنف الموجه ضد المرأة،
وتحاول هذه الأخيرة صده، ألا يؤكد ذلك ما ذهبت إليه إحدى الدراسات أُشير فيها إلى
وجود الظاهرة بنسبة 98%، ألا تشير الحالة إلى شكل من أشكال العنف "اللفظي
والمعنوي" الذي تتعرض له المرأة في تعاملاتها اليومية، وربما سبقه أو سيلحقه عنف
"مادي"، وأن ما رد فعل المرأة ما هو إلا مجرد تعبير بسيط يأبى ذلك
ويستهجنه، ألا يكشف موقف الرجل عن حقيقة أن أكثر الأطراف ممارسة للعنف فعليا ضد
المرأة هم الزوج بنسبة 89.8 % ثم يليه الأخ 18.4 % فالأب 16.2% فالغرباء 6.8 % والأقارب من الدرجة البعيدة 3%، مثلما أكدت
الدراسة التي انبنى عليها تحليل محدثي.
لم تكن المسألة
بحاجة لكثير كلام انشغلت به الأدبيات المختصة بالمرأة، ولا بالمعوقات التي قد
تعترض سبيلها في الحصول على حقوقها كاملة، وهل يتوافق ذلك مع خصوصيات المنطقة
الدينية والقيمية أم يتجاوزها في نطاق صيحات التحذير من التغريب أو الانبطاح أو
غير ذلك، وأكدت لضيفي: لابد أولا من استبعاد تلك المخاوف والألفاظ التي لا تُستخدم
سوى في أروقة البحث العلمي وبين أغلفة الكتب التي تتناول أو تهتم بوضعية المرأة في
مجتمعاتنا، ونركز فقط على إجابة سؤالين باعتبارهما مقاربة بسيطة لحالة تلك المرأة
"المتمردة" موضع الاهتمام...
السؤال
الأول: لماذا لا ترى المجتمعات الشرقية، العربية والإسلامية تحديدا، أو فئات منها،
في المرأة شريكا مساويا للرجل في قيادة مسيرة التنمية واتخاذ القرارات سواء على
مستوى الأسرة الصغيرة أو على مستوى المجتمع الأكبر، وهو الوطن؟ الثاني: هل الأمر
يتعلق بمدى فاعلية أو عدم كفاءة المرأة عندما توضع موضع الاختبار والعمل على أرض
الواقع؟ أم أن الأمر يتعلق بظروف وثقافة مجتمع يأبى على المرأة إلا الانخراط في شؤون بيتها أو أسرتها فحسب دون أن تتجاوز تلك
الأطر بالمرة؟
مع
تزايد حدة الجدل مع محدثي الذي استفزني، محركا المياه الراكدة حول مجتمعات لم تعتد
"خروجا" من المرأة كهذا، دارت العديد من التساؤلات الإضافية في ذهني التي
لا يمكن الإجابة عنها بعد، حثني إلى ذلك نظرة التحدي التي أطلقتها المرأة في وجه
زوجها وأثارت حنقه، وأدرك ضيفي رغبتي في مساجلته بحكم طبيعة تخصصي كخبير في علم
الاجتماع التنموي مع حرصي وحفاظي واعتزازي بهويتي الدينية، وقلت له إنه لأمر محير عندما
تجد مثل هذا النوع من النساء الذين لا يتقيدون بما قد يُفرض عليهم من أوامر أو نواهي
في مجتمعاتنا..
حاولت
أن أقدم له رؤية ولو مختصرة للآليات التي يمكن اتباعها لترسيخ حقوق المرأة، وكيفية
إقناع المجتمع بكل فئاته وشرائحه بضرورة العمل على حمايتها والحفاظ عليها، وأن هذه
الحقوق لا تعني مطلقا افتئاتا على التقاليد أو خروجا عن الدين، وأضفت: حتى يمكن
تحقيق ذلك لابد من العمل على مستويين أحدهما يتعلق بالمرأة ذاتها، والآخر يتعلق
بالمجتمع الرافض أو فئات منه ـ على الأقل ـ لدور المرأة، مؤكدا له أنهما السببان
الرئيسيان لهذه النظرة المتدنية التي تعاني منها المرأة في المجتمعات التقليدية
الصغيرة، وتمنعها من نيل حق مواجهة زوجها، إنْ لزم الأمر.
استطردت
في الحديث، وقلت الأمر بغاية السهولة، فمثل هذه المجتمعات تنشأ منظومة الوعي لديها
على قيم ومدركات تُعلي من شأن الرجل وتحط بالتالي من المرأة، والمخيف أن هذا ما
تعتاده المرأة نفسها وتعيش في إساره في كل مراحل حياتها بدعاوى العيب والدين وما
إلى ذلك، دعك من الرجل الذي يمارس سلطته ويفرض قرارته "المبررة" شرعيا
وأخلاقيا، حتى لو كانت خاطئة، في حين أن "قرينته" تخرج إلى الحياة وهي
أكثر قربا إلى الاستكانة والخضوع وأقل قدرة على الفعل والمواجهة، وحتى يمكن التصدي
لذلك وإحداث تغيير في منظومة القيم هذه لابد من مشروع ثقافي شامل تتبناه مؤسسات
التنشئة كافة من أسرة ومدارس ونوادي ودور عبادة وجمعيات وغيرها، وبحيث تشارك فيه
كل أجهزة الدولة، والهدف هو تنشئة الكبار وتكريس قيم وأفكار بديلة تعطي للمرأة،
ولو بقدر، ما أُعطي للرجل، وتمنحها الثقة الكاملة لكي تمارس حقها الإنساني في الفِعل
والإرادة بدءا بأسرتها الصغيرة وحتى أسرتها الكبيرة ومجتمعها ككل.
هذا على
مستوى المجتمع ومؤسساته المختلفة، أما على مستوى المرأة نفسها، فحدث ولا حرج، حيث
تتردد انطباعات سلبية كثيرة عنها، في الشارع والبيت وأماكن العمل وغيرها، وعندما
تتحرى وتدقق في هذه المدركات تجد أن السبب الرئيسي لها هو المرأة نفسها وبعض
السلوكيات التي ربما تظهرها أو تقوم بها بحسن نية، صحيح أن بعض هذه الانطباعات قد
يكون مبالغ فيها، ومن المحتمل أن تكون نتيجة غلبة "الثقافة الذكورية"
التي تهمش من المرأة دوما، لكن في الحقيقة أن بعضها يحظى بصدقية عالية، حيث يلاحظ
أن بعضهن في أماكن العمل ـ مثلا ـ أكثر استهتارا وإهدارا للوقت أقل جهدا أكثر
اعتمادا على أشياء أخرى والغير عند أداء العمل المناط بهن، ويرتكبن أخطاء ترجع ربما
إلى طبيعتهن الخاصة.. لذا لا يفضل البعض من المدراء الرجال العمل معهن تارة بدعوى
أنهن قد لا يتحملن التكليفات ولا ضغوطات العمل الذي يسببونه أو بدعوى أنهن لن
ينفذن المطلوب بالشكل الأمثل تارة أخرى.
ومن
هنا، ودرًأ لمثل هذه المبررات يمكن البدء بعدة إجراءات أراها غير تقليديةبعيدة عن
ألفاظ كالدعم والتمكين وما إلى ذلك، من قبيل: إشعارها بأنها لا تمثل نفسها فحسب
بقدر ما تمثل مجتمع بالكامل وعليه لابد من إكسابها سلوكيات معينة والتخلص من
سلبيات أخرى انطبعت عن المرأة، تأهيلها التأهيل الكافي لمتطلبات العمل المكلفة
بها، علميا وفنيا وخبراتيا، وضعها موضع الاختبار الفعلي في الإدارة والقيادة،