الأربعاء، 11 ديسمبر 2013

لن أسكت بعد اليوم

لن أسكت بعد اليوم
بقلم: محمد شحات عبد الغني
شدني إليها هذا التحدي في نظرة عينيها عندما واجهته منتفضة، مندفعة إلى لملمة متعلقاتها آمرة صغيرها بسرعة إنهاء وجبته لتذهب به، وركزت سهام غضبها ناحيته وخَاطبتْه بصوت التقطه المحيطون بوضوح منذرة إياه بألا يكرر ما قاله ثانية...
فوجئ الحضور بالموقف لخرقه تقاليد تأبى على المرأة سوى التحرك ضمن إسارها، وساد انطباع بأن تغيرا في المفاهيم يضرب بقوة قيما لا زالت ترى في المرأة مجرد كم مهمل ويمكن اقتيادها هنا أو هناك دون مشاركة منها أو رأي، ولا يحق لها، ولا تملك القدرة أصلا على الأخذ والرد في قرار ربما يخصها.
غرابة الموقف أثارت الجميع، ليس فقط لأنه يصدر عن امرأة اعتاد الناس على رضوخها وانسياقها، ولا بسبب "الخروج" الذي اُعتبر"فظا"  لأنه يتجاوز قيم تمنعها من رفع صوتها على "ولي أمرها"، وإنما لأن هذا الأخير الذي دفعها للاستشاطة غضبا، والتلفظ بكلمات غير مفهومة لم يتحرك قيد أنمله من مجلسه، ولم يسع للتراجع عما نهرها عنه، أو حتى استرضائها ولو بكلمة تنقذه من حرج سقط فيه.
لم يتغير وجه الزوج بالمرة ـ هكذا أدركنا العلاقة بحكم الصغير الناظر للمتخاصمين بعين من اللهفة والترقب ـ لم يتغير وجهه أمام موقف قلما يحدث في مجتمعات لا زالت تُخفي النساء عن الأعين لأسباب غير مبررة، وكأنه يؤكد مسلمات شديدة "المحافظة" ناحية المرأة وحقوقها، وترددت همهمات في جنبات المكان حول دافع الزوجة، وطريقة تصديها لزوج لم يقدرها التقدير الكافي في محفل عام ويعطيها الحق في مناقشته بدلا من الاعتراض عليه، أم أنه لا يصح منها ولا ينبغي عليها أن تراجعه فيما يقول لأن ما يراه أو يُفصح عنه أمر "منزل" يسري عليها دون نقاش أو مراجعة!
التفتَ إلي محدثي محاولا أن يستوعب ما جرى مستفسرا عما غمض واستصعب عليه فهمه، ورغم أن كثيرين لم يعبأوا بمحاولة سبر أغوار ما حدث باعتباره شأنا خاصا، ولأننا لم نَحُطْ بخلفيات الحوار كاملا، لكن ضيفي القادم من بيئة مغايرة أصر على فهم المسألة، معتبرا إياها وأشياء أخرى دليلا على نزوع المرأة في الخليج على أن تخلع عنها ربقة الخانع الذليل الذي تتوقف حياته وتنبني على ما يحدده لها الرجال حتى لو كانوا من أقرب الناس لها.
أفاض قائلا: ألا يعتبر الموقف عنفا حاولت المرأة صده، ألا يؤكد ما ذهبت إليه دراسة بوجود الظاهرة بنسبة 98%، ألا تمثل الحالة شكلا من أشكال العنف "اللفظي والمعنوي" الموجه للزوجة يوميا، وربما سبقه أو سيلحقه عنف "مادي"، وأن رد فعلها ليس إلا مجرد تعبير صارخ يأبى ذلك ويستهجنه، ألا يكشف موقف الرجل عن حقيقة أن أكثر الأطراف ممارسة للعنف فعليا ضد المرأة البحرينية هم الزوج بنسبة 89.8% يليه الأخ 18.4% فالأب 16.2% فالغرباء 6.8% والأقارب من الدرجة البعيدة 3%.
أدرك محدثي رغبتي في مشاركته وقلت له: لمقاربة حالة تلك المرأة "المتمردة" ينبغي أن نركز فحسب على إجابة سؤالين، لماذا لا ترى مجتمعاتنا، أو فئات منها، في المرأة شريكا مساويا للرجل في الرأي واتخاذ القرارات و"الاعتراض"؟ هل الأمر يتعلق بفاعلية أو كفاءة المرأة عندما توضع موضع التقييم والعمل على أرض الواقع؟ أم أن الأمر يتعلق بظروف وثقافة مجتمع يأبى حتى عليها الانخراط في إدارة شؤون بيتها وأسرتها وألا تتجاوز حدود ذلك بالمرة؟
فسرتُ له لماذا لا يحق للمرأة هنا الاعتراض بمفهومه الواسع، وكيف يمكن إقناع المجتمع وفئاته كافة بحماية هذا الحق وتغيير اتجاهاته حوله، وأن ذلك لا يعني مطلقا افتئاتا على التقاليد أو خروجا عن الدين أو تجاوزا للقيم والأعراف المتبعة، مؤكدا أنه يمكن غرس هذه الثقافة عبر العمل على مستويين أحدهما يتعلق بالمرأة ذاتها، والآخر يخص فئات المجتمع الرافضة، معتبرا أنهما السببان الرئيسيان لهذه النظرة التي تستغرب على المرأة بعض تصرفاتها، وتمنعها من نيل حق مواجهة ولي أمرها، والدها كان أو ولدها وبالطبع زوجها، واغتصاب حقوقها منهم.
استطردت قائلا: تنشأ منظومة الوعي في مجتمعاتنا على قيم ومدركات تُعلي من شأن الرجل وتَحُط من شريكته، المخيف أن هذا ماتركن إلبه وتعتاده المرأة وتعيش مكبلة به في كل مراحل حياتها بدعوى العيب والأخلاق والدين، دعك من الرجل الذي يمارس سلطته ويفرض قرارته "المبررة" شرعيا وأخلاقيا منذ نعومة أظافره، حتى لو كانت خاطئة، في حين أن قرينته تخرج إلى الحياة ومنذ المهد وهي أكثر قربا إلى الاستكانة والخضوع وأقل قدرة على الفعل والمواجهة..
وكي يتم التصدي لذلك وإحداث تغيير في منظومة القيم لابد من مشروع ثقافي شامل تتبناه مؤسسات التنشئة كافة وبحيث تشارك فيه وترعاه كل الأجهزة الرسمية، والهدف ليس فقط تنشئة الصغار، وإنما تنشئة الكبار أنفسهم، لتكريس قيم وأفكار بديلة تعطي للمرأة، ولو بقدر، ما أُعطي للرجل، وتمنحها الثقة الكاملة لكي تمارس حقها الإنساني في الفِعل والإرادة.
وأضفتُ: تتردد انطباعات سلبية كثيرة عن المرأة في البيت والشارع وأماكن العمل، وعندما تتحرى وتدقق في هذه المدركات تجد أن سببها الرئيسي بجانب المجتمع هو المرأة نفسها وسلوكيات ربما تظهرها أو تقوم بها بحسن نية ودون قصد، صحيح أن بعضها مبالغ فيه، ويُحتمل أن يكون نتيجة غلبة "الثقافة الذكورية" وتعقيدات المجتمع والضغوط الاجتماعية الناتجة عن التوقعات من المرأة..
لكن هذا التنميط بحق المرأة يحظى بصدقية عالية، إذ تشير دراسة إلى تحديات تواجه رائدات الأعمال البحرينيات منها ضعف مهاراتهن واهتزاز ثقتهن بأنفسهن، فضلا بالطبع عن صعوبة الموائمة بين أعمالهن ومتطلباتهن الأسرية، وهي تحديات تدعم القناعات السلبية عن المرأة "العادية"، سيما في أماكن العمل بدعوى أنهن أكثر استهتارا..إهدارا للوقت..أقل جهدا..أكثر اعتمادا على الغير وأشياء أخرى عند أداء العمل المناط بهن..ارتكاب أخطاء ترجع ربما إلى طبيعتهن الخاصة..لا يفضلن العمل في أعمال محددة أو في ظروف معينة.. لذا يفضل رجال عدم العمل معهن ويبرر المدراء منهم بأنهن لا يتحملن تكليفاتهم ولا الضغوطات التي يسببونها أو لأنهن لن ينفذن المطلوب بالشكل الأمثل وليس لديهن الاستعداد ولا الرغبة في تحمل المخاطر وتطوير الذات والمهارات.

ودرًأ لهذه المبررات ولتعديل الصورة النمطية المغلوطة يمكن البدء بإجراءات منها: إكساب المرأة سلوكيات تمكنها من التخلص من سلبيات انطبعت عنها، وذلك كي تشعر بأنها لا تمثل نفسها فحسب بقدر ما تمثل مجتمعها بالكامل، وأن أي خطأ يُنسب لها يرسم صورة سيئة عن بنات جنسها ككل، كما لابد من رعاية المتفوقات منهن في مجالات الدراسة والعمل المختلفة، وتوفير البيئة المحفزة لهن وتأهيلهن التأهيل الكافي لمتطلبات العمل المناط بهن، علميا وفنيا وخبراتيا، بحيث يوضعن دوما موضع الاختبار الفعلي في الإدارة والقيادة، والغرض ليس مناطحة الرجال بقدر إظهار قدراتهن على العمل وسط الضغوط وفي أية ظروف وكسب ثقة الغير في أي موقع يشغلنه.