مصر هي الدولة ربما الوحيدة في العالم التي تقنن للفساد وتنظمه وتؤطره وتجعل له أسسا ومبادئ تخول لهذا الطرف شيء ولذاك الطرف أشياء..
ويبدو أن مصر حاولت كثيرا أن تصحح الخطأ الوارد في أحد أمثلتها الشعبية الذي يقول "ما شافهمش وهم بيسرقوا.. شافوهم وهم بيتحاسبوا".. وعملت بكل ما أوتيت من قوة لتدارك الخطأ التراثي هذا الخاص بحرامية المال والنهب العام، حيث سعت ونجحت في مسعاها لمنع المحاسبة بين الحرامية حتى لا يخرج الصوت بعيدا ويسمعه كل من هب ودب..
هذا هو التبرير الوحيد الذي يمكن رصده لتفسير القانون الاستثماري المصري الجديد، والذي حصن قرارات الطعن على العقود الحكومية الاستثمارية وقصرها على أطراف التعاقد دون غيرهم..
أي أن المواطن المصري، الواعي منه تحديدا، والشركات المنافسة المتضررة، وربما الجمعيات الأهلية المعنية بالشفافية ومكافحة الفساد، لن يكون بمقدورهم كلهم مجرد إبداء الرأي في عقد بين الدولة المصرية وأحد المستثمرين..
بمعنى آخر لن يكون بمقدور سلطة الصحافة الحديث عن شبهة ما في عقد بين الدولة ومستثمر أجنبي أو عربي أو حتى مصري، لأن القانون المذكور يقصر حق الطعن على الطرفين المتعاقدين دون غيرهم..
وهذا مثال صارخ لكيفية تقنين الدولة للفساد وتنظيمه، وذلك تشجيعا للمستثمرين، ورغبة من الدولة في طمأنتهم، وتيسير تمتعهم بالإرث المصري دون أن ينغص عليهم أحد نعمة الرخاء والخير الذي يرفلون فيه من قديم..
لن يكون بمقدور أي محام مشاغب رفع قضية بشأن عقود البيع الحكومية لمؤسسات الدولة ومواردها، لن يكون بمقدور عمال عمر افندي وغيرهم الكثيرين القدرة على المطالبة بتعويض عن حقوقهم المهدرة..
لماذا هذا القانون في هذا التوقيت، هل هو الثمن المقابل لما نحن فيه، من المستفيد من ورائه، شركات الأسمنت والذهب والنسيج والمحاجر والمطاحن وغيرها التي بيعت بتراب الفلوس سواء لمستثمرين عرب أو أجانب، ماذا يعني ذلك بخصوص رئيس الوزراء الذي يوصف بأنه أحد الفلول الكبار وجاءت قدمه في كثير من قضايا فساد النظام المخلوع، ما هو أثره وتداعياته؟
السؤال الأهم: هل هي بداية الإعلان عن مرحلة الهروب الكبير للحرامية، الذين يحاولون الحصول على أي شيء قبل أن ينهدم المعبد على من فيه، هل ذلك يعني شيئا من عدم الثقة في قدرة النظام على الرسوخ والثبات في مواجهة ما يتعرض له أو ما يتهدده من شبح الانحدار والإفلاس؟