الأربعاء، 14 مايو 2014

من مُستَنجَد به لمن يستنجِده

أعادني هذا "الاستنجاد" إلى حقيقتين كلتاهما أمر من الأخرى يعيشهما في كل لحظة من عمره "المقصوف" المصري الفصيح الذي لم يستطع طولا إلا أن يجلس أمام مقر شاكيه ليطرح له همومه دون أن يخرج عليه بوقفة أو إضراب أو اعتصام أو تظاهرة أو حتى تمرد، مكتفيا بشكواه التي دبجها محمد أفندي "الحمار" بالتعاون مع رموز ونخبة قريته الذين تجدهم في كل مصيبة بداية من ممثل السلطة ورجل الدين وصاحب المال والنفوذ وعبر كلماته الجوفاء حول التحاف "رعايا" الباشا المأسوف عليهم بالسماء وافتراشهم  للغبراء..

الحقيقة المرة الأولى تتعلق باللغة ذاتها التي ملت أسماعنا منها بعد أن تكررت علينا ليل نهار طوال جيلنا، وربما أجيال سابقة على جيلنا، بضرورة أن نبذل ونقدم ونضحي ونشد الأحزمة ونعطي ونسعى بكل الصور الممكنة وغير الممكنة حتى لو كان ذلك على حسابنا وحساب أهالينا من أجل إنقاذ البلد التي لا زالت بحاجة إلى الإنقاذ منذ آلاف السنين..

وبضرورة أن نحمل فوق طاقتنا ونتحمل بالتبعية كل ما نحن فيه وأسوأ حتى تمر بلادنا من عنق الزجاجة الذي لم تخرج منه منذ أن تم تدشين هذا المصطلح قبل نحو 50 عاما حتى أننا بتنا نحتفل بهذه المناسبة سنويا، ونأبى إلا أن نخرج حتى لا تضيع علينا رائحة الأنس والتجمع والحكي بين "بعضينا" داخل الزجاجة..

وبضرورة أن لا ننتظر حدوث أي تحسن في أوضاعنا أو أن نشهد أي تطور في ظروفنا و"جواباتنا"، وأن نبقى راضين قانعين بما تلقيه علينا "كلاب السكك" من فتات بعد أن تكون بطونهم قد امتلأت وجيوبهم قد انتفخت وبيوتهم قد  زُخرفت وأولادهم الفاشلين قد عُينوا ووظفوا بالمخالفة للقوانين ومبادئ الصعود الطبقي الطبيعي..

وبضرورة أن لا نجأر بالشكوى أو الدعاء بـ "الحسبنة" على الظالمين أو نلتمس العون من غيرهم، وذلك حتى لا ننشر غسيلنا القذر أمام الأعداء المتربصين بنا، أو أن نجعلهم يشمتون بنا كالشماتة في "المطاهر العجوز الذي خرج على المعاش"، وحتى لا نرفع الغطاء عن قيادتنا الكاريزمية المخلصة(بكسر الميم وليس ضمها وفتح الخاء واللام والصاد)، ونقدم لها ولمصرنا "المهبوبة" ما نستطيع من دعم وعطاء وبذل وتضحية بالغالي و"السمين" وليس الثمين ..

"ما تقولش أيه اديتنا مصر، وقول هندي أيه لمصر"..

الحقيقة الثانية الأكثر مرارة التي لا زالت عالقة في أحلاقنا (جمع حلق وتجمع أيضا على حلوقنا حسبما أعلم) مع كل أزمة تمر بنا، وتجددت مع استنجاد الرئيس الفعلي للبلد للمصريين بالخارج، وهي حقيقة تتعلق بالمُعين الذي بحاجة للإعانة، بذلك البنك المتنقل، مصدر التمويل والإيرادات الذي يستطيع بفعل "الفائض" الذي يكبشه في الغربة، ويستطيع أن يرفع به أقواما ويذل به آخرين..

حتى أن هذا المغلوب على أمره يملك وحده ودون غيره من قوى ومؤسسات وأفراد ورجال أعمال وبرامج حقيقية ناجعة، أن يُخرج البلد من كبوتها، ويستطيع أن يدفع مرتبات "كبار" موظفيها الذين استأثروا بمغانم المنح والهبات والمكرمات فضلا عن المعونات التي تقدم من هنا وهناك..

هذا بالرغم من أن هذا "المُلتجَأ اللاجئ" لم يخرج أصلا  من بلده وأهله وناسه إلا بعد أن سدت كافة الأبواب في وجهه، ولم يكن بإمكانه إلا أن يفر فرار المجزوم من الأسد متحملا في سبيل ذلك مبررا لوجوده غريبا يعمل عند الآخرين كل عنت واستغلال ونهب منظم بدعوى عقد عمل في الخارج..

المعين المُستجَد به، إنه هذا المصري الذي ترك أهله وناسه، وربما حياته كلها ومستقبله، بفعل ما وجده من صعود غير الأكفاء والتضييق في فرص العيش، متحملا ـ من أجل الهروب ـ غربته وأهله النفسية وإخفاقه في التعامل مع أناس يرفضون أصلا وجوده، وإن كانوا مضطرين للاستفادة منه والتعامل معه على مضض باعتباره لم يأت إلى الخارج إلا للعمل والعمل وحده، ولو على حساب صحته وربما كرامته..

المصري المُستنجَد به بحاجة لمن ينجده حتى لا يُنظر له وكأنه قفز على حقوق آخرين في العيش، وحتى يؤمن لنفسه وعياله في بلده التي أخرجوه منها موطئا يغنيه عن سؤال اللئيم، وحتى لا يُسئل صراحة وضمنا ما الذي أقدمك على أن تبعد عن أهلك وتتركهم، لماذا تركت مصر "الممصوصة" وفي رواية "المهروسة" وبحور اللبن والعسل هناك، أبحثا عن فرصة عمل ولقمة عيش، أم  طمعا في أشياء، أم هربا، لا ندري، من أشياء أخرى..

تالله الذي لا إله إلا هو، لا يمكن أن يجد كثير من المصريين وسيلة ليقدموا بها العون والمساعدة لبلدهم وللآخرين إلا قاموا بها، وحسب ما توفر لهم من مقدرة، رغم الأسباب والبواعث الكثيرة التي تدفعهم للتفكير في العكس، فالرغبة في رفع المعاناة عن البلد والآخرين والتخفيف من وطأة الحمل الثقيل الذي يقع على عاتق المصريين الغلابة والمساهمة في الرفع من شأنهم وإبرازهم في الصورة هي ديدنهم الأول، لكن الأمر بحاجة أولا لكي يقوم المعنيين بما هو مطلوب منهم، بدلا من أن يلقوا بالكرة في ملعب المصريين بالخارج..