الأحد، 15 يونيو 2014

للمرة الألف.. هناك مصريون آخرون

مشاهدات تترى عليك من هنا وهناك تؤكد لك أن هناك مصريين "آخرين" لا نعرفهم، وأن مصريين "آخرين"، وبشكل متعمد، لا يريدون لأحد أن يعرفوا هؤلاء البائسين أو عنهم، لأنهم ربما قد يكونون سبة في جبينهم أو عارا لا يمكن تحمله..

ويصر "مصريو" العصر وعبر تكتيكات غسل الأدمغة الممنهجة وتغييب العقول وتغيير المدركات، على صياغة ورسم وبث صور بديلة تحاكي ما في مخيلتهم عن المصريين الذين يريدونهم دون هؤلاء الذين لا يعتبرونهم أصلا ضمن هذا الشعب أو من بين أبنائه..

بمعنى آخر هناك مصريون ممن يمكن تسميتهم بالمصريين "الأوُّل" الأقحاح، قد يكونوا من الفقراء المهروسين الممصوصين أو حتى المعارضين، أو غيرهم، وهم غالب الشعب في الحقيقة، وقود وملح الأرض، الذين يمثلون بحكم أدوارهم التي يقومون بها رغما عنهم، وربما طواعية، "المخدماتية" أو الطبقة "الخادمة" لرغبات وتطلعات غيرهم من النافذين..

وهؤلاء جميعا يُعدون من المنبوذين المرفوضين القابعين في أدنى درجات سلم الطبقات الاجتماعية، ولا يجدون الفرصة الكافية للصعود، ولو قليلا، أو حتى الخروج من وضعيتهم تلك، وهم مع ذلك، ورغم المهام الجسام التي يقومون بها، لا يقبلهم المصريون "الواصلون" من "الأسياد" المنتشرون في مواقع السلطة والمال والنفوذ، الذين يعتبرون بحكم تعريفهم "أقلية" تسود وتسوس وتسيطر طبقيا ونخبويا..

ألم نسمع ونرى جميعا عن مصطلحات وصور تم تداولها بكثرة، وتشير ضمنا إلى هذه المعاني الانقسامية في المجتمع، الناس "بتوعنا" والناس "بتوعكم"، الراجل "بتاعنا"، دا "تبعنا"، وهي المعاني الدارجة المصرية عن "البتاع"، أو ما يعرف بالصلة بين الشيء التابع والمتبوع، بين السيد والعبد، بين الخادم ومخدومه، بين الآمر والمأمور، أو "عبد" المأمور، كما تم الاصطلاح على ذلك عرفا وتقليدا في الأوساط الشعبية..

دعك من كل هذا، انظر فيما يتم تداوله عبر الصور في وسائل الإعلام المختلفة، سيما في الدراما والسينما، سواء أكانت تتمتع بالصدقية أو غير ذلك، دقق جيدا في ملامح الشخصيات المصرية وواقعها وظروفها الاجتماعية، إذ لا تعدم وجود هذين النوعين:

أحدهما يمثل رعاع المصريين الذين ملأوا البلد والطرق، وتجتمع فيهم ومناطقهم كل الموبقات والصفات السيئة والمذمومة، ويعيشون وأولادهم الذين ولدوا ـ غالبا ـ خارج نطاق الزواج، وفي مناطق لا تقل عنهم سوءا وذما، ويحملون مسؤولية كل الأوضاع السيئة التي لا يعيشونها هم فحسب، بل تعيشها البلد ككل، وهم من ينشرون غسيلها "الوسخ" أمام الآخرين وغير ذلك..

النوع الآخر، أكثر رقيا وتقدما بطبيعة الحال، أو بالمصطلح العامي المصري، الناس "النضيفة"، أو البشوات على اختلاف درجاتهم ومستوياتهم بالطبع، والذين يعيشون بالمقارنة بالعامة والدهماء في ظروف أفضل، إذ يقطنون مناطق مختلفة، وربما كامبوندات، إن صح هذا الجمع..

ويمشي هذا النوع من المصريين اللطفاء ـ عفوا ـ يركبون سيارتهم وتاكسياتهم، وليس الحافلات العامة ولا حتى المكروباصات، في شوارع أكثر تنظيما وضبطا، ولهم أعمالهم الخاصة، ولأبنائهم بالطبع مدارس مختلفة غير تلك المكدسة بالمئات من الأطفال الذين لا يُتوقع أن يتجاوز أفضل مصير لهم سوى التعطل والجلوس على المقاهي، أو العمل كعامل حرفي، وليس أن ينخرط بعد أن يتسرب من مؤسسات التعليم النابذة إلى الشارع ليسهم بدوره في نماء ظاهرتي التوربينات والنخانيخ ـ جمع "التوربيني" و"نخنوخ"..

إذاً إنه الحقد الطبقي ثانية الذي يمثل دافعا لرصد مثل هذه الظواهر، ألم تنتهي هذه اللغة بعد كل ما شهدته مصر من تطور وتقدم، وبات الجميع يشعر بأنه مواطن له كل الحقوق وعليه كل الالتزامات، ويشكو جميعهم من المساواة التي يرفلون في نعيمها ليل نهار أمام القانون والمؤسسات العامة، وتتوفر لهم كل فرص النماء والتطور والصعود الطبقي وبشكل متساو..

قد لا يعنينا كل ذلك، على الرغم من مخاطره والتهديدات التي يمثلها أو يعكسها ويفرزها، ومن البديهي أن يوجد في أي مجتمع من يملك ومن لا يملك، من يتطور ومن يظل قابعا يشكو ألم الدهر..

ما يعنينا هو أن هناك مصريين آخرين يتم تجاهلهم عمدا، ولا يعيرهم أحد اهتماما، ويتعمد الرافضون لهم تشويههم، وإبرازهم كعبء يجب استئصاله على الرغم من أن لهم كل الحق في أن "يطلعوا في الصورة" مع غيرهم..

ما يعنينا ضبط ظاهرة الباعة الجائلين في شوارع القاهرة، وليس تشريدهم وسرقة بضاعتهم المستهلكة، ما يعنينا تنظيم عملية البناء وإدخال المرافق للبيوت والشقق "المتوصلة على بعضها" بدل هدم الأساسات وتضييع أموال الناس، ما يعنينا توفير الحد الأدنى من المعاش ومقومات الحياة العادية لغالبية الناس بدلا من التضييق عليهم وملاحقتهم بتهم البيروقراطية وتلقي الرشاوى..

ما يعنينا أشياء كثيرة، ليس أقلها إعطاء الاهتمام الكافي ببقية المصريين..
ولا الالتقاء بهم ومباشرة الخطاب معهم على غرار الفنانين والرياضيين وطلبة الكليات الحربية ومعسكرات الأمن وبعض النساء..
ولا الخروج لشوارعهم المليئة بالمطبات والتي لا يوجد فيها شرطي مرور واحد في بولاق وشبرا والدويقة ومنشية ناصر..
ولا حتى إجراء سباقات "العجل" في مناطقهم المنكوبة أسفل الجبال وبجانب المصارف والمصانع الملوثة..

وإنما ما يعنينا بشكل أكثر حيوية هو العمل على أن تتوفر "الحارات" المناسبة في الطرق المصرية كي يركب المصريون المغلوبون على أمرهم ـ  وليس من يملكون السيارات ولا من يملكون القدرة على دفع أجور التاكسيات والمكروباصات ـ "عجلاتهم" بأريحية، بحيث يأمنوا فيها على أنفسهم وهم ذاهبون للعمل، هذا بافتراض توفر المقدرة المالية المناسبة لديهم لشراء "عجلة" من طراز "نصر" أو "رمسيس"، وليس "عجلة" "بيجو" كتلك التي يردد الخبثاء أنها بـ "تمن" ـ أي بثمن ـ سيارة نص عمر يتوق المصريون الأوائل لركوبها..