لا تدخل مكانا ولا تسمع شيئا من أحد، حتى لو كان هذا الأحد لا يفقه شيئا، ولا يفك خطا، ولم يدرس على يد جهابذة الاقتصاد والمالية، الذين يصدعون رأسنا دوما في الفضائيات، إلا ويقول لك أن مصر غنية..
لا شك أنها غنية بأبنائها، وهذا أمر لا جدال فيه بغض النظر عن التحولات الكبيرة التي تعرضوا لها ولوثت قطاعا عظيما منهم..
في التراث والحكم الفلكلورية، يقولون لك أن أحدا في مصر لا يبيت من غير عشاء كدلالة على أن الجميع بيقضيها بعيدا عن مستوى هذا العشاء أو كفايته أو حتى تأثيره الغذائي...
وبالشعبي، وهو ما يروج له في بعض الأفلام والدراما المصرية المنتشرة، يقولون لك أن هذه البلد منذ الفراعنة وهي كالبقرة الحلوب تدر لبنا ساخنا لم ينقطع، ويبدو أنه لن ينقطع، وإن كنا نخشى من ذلك مستقبلا..
بالعربي، أقصد عندما تجتمع مع إخوة عرب تعلموا أو تربوا أو زاروا أو عاشوا في مصر لفترة، يقولون لك أن في هذه البلد خير واسع لم نقدره نحن المصريين محدثي النعمة..
وبالعلمي، إن صح هذا التعبير، يثبتون لك وبالأرقام، وهي كثيرة ومتداولة بالفعل، انظر لأحاديث نائل الشافعي وصلاح جودة وتقارير مجلة فورتشن التي تؤكد أن ثروة المصريين بيد ثمانية عائلات فقط، أن بمصر من الثروات ما يجعلها من أغنى الدول في الثروات المحجرية والتعدينية والهيدروكربونية والزراعية وغيرها التي لم تنكشف بعد، وهي كالأرض البكر التي تنتظر فقط من يستثمرها، رغم أنهم كثر ولا يطيقون سوى الانقضاض عليها وافتراسها...
والسؤال الذي يطرح نفسه: إذا كانت مصر بهذا الغنى والثراء الفاحش، كما يقولون، والذي يمكن أن تنافس به سلطنة بروناي دار السلام، لماذا تقع في ذيل الدول الفقيرة التي يهددونا دوما بها وبشبح الإفلاس الذي ينتظرها إذا لم نضع لساننا في خشمنا ونشد الأحزمة على بطوننا الفارغة؟
انظر لكتاب "توني ويلكنسون" "صعود وهبوط مصر القديمة" الصادر عن دار نشر "بلوم سيبري" لندن عام 2010، حيث يشير إلى ما يسميه أرض الفرعون التي يزرعها المصريون سخرة وقسرا لحسابه، واحدا من بين عشرة كان يموت نتيجة هذا العمل الرخيص في مصر المهروسة منذ القدم..
والتي تقدر محاصيلها عند الشراء من الدولة والكهنة التابعين لها بقيمة أقل مما صرفه عليها العبد المصري الغلبان..
هذا فضلا عن الاستحقاقات التي كان يدفعها هذا المصري الآبق لوكلاء الفرعون في الأقاليم حتى لا يعاقب، وهم الحشاكيل المعروفين بمسمياتهم المختلفة الآن..
وحتى إذا كانت البلد في مجاعة، ولم تدر الأرض ما يكفي مؤونته وأهله، فإنه مطالب بسداد الضريبة..
وعندما لا يُتاح له ذلك، فلا تنتظر منه سوى الفرار من أرض الله إلى أرض الله أو السجن على ذنب لم يرتكبه وربما لم يكن له يد فيه..
لماذا نذهب بعيدا، ونبحث في أعماق التاريخ الذي لم يتغير كثيرا إلا في عملية الاحتراف والتمكن في عمليات السرقة والنهب؟
انظر لطرق معالجة النافذين لمشكلات المصريين الناجمة عن ضعف ذات اليد، والتي تخلق مشكلات لا حصر لها بداية من الجريمة حتى الخروج على الحكام، تلك المشكلة الي يئنون منها الآن، ويريدون إعادة المصري إلى الحظيرة ثانية ملهيا بلقمة عيشه المغموسة في الذل والمهانة؟
جميعهم يتحدثون منذ الخمسين سنة الأخيرة حول الدعم وضروة توجيهه، وهي كلمة حق يراد بها باطل..
انظر لما يزعمونه حول سياسة التقشف وتقليل الإنفاق..
تمعن في الحديث عن الحد الأقصى للأجور ورواتب المستشارين والسفارات التي لا تخدم سوى نفسها..
أشياء كثيرة تؤكد لنا أهمية التفكير في تلك الحادثة التي أشار إليها الكتاب المذكور سلفا بشأن ذلك العامل في إحدى السفن التي كانت تنقل المؤونة والمحاصيل من وادي الدلتا في شمال مصر إلى جنوبها عبر النهر..
ذلك السارق الذي لم يُكشف عن دوره إلا بعد عقد كامل من فساده، ولا نعرف ما إذا كان دُفع دفعا لذلك، أم ماذا، حيث كان يختلس جزء كبيرا من حمولة السفن التي كان ينقلها بالتعاون مع الوكلاء والكهنة والإقطاعيين النافذين، وهم الحشاكيل أنفسهم التابعين للدولة الذين يسمونهم اليوم بالبيروقراطيين في المواقع المختلفة ورجال الأعمال والكبار المنتشرين في كل بقاع مصر ومؤسساتها المنهوبة..